التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من مذكرات الشهيد خيري علقم ..مدونة الاديب وليد الهودلي

من مذكّرات الشهيد علقم وقوانين نيوتن؟!

وأنا أحاول سبر أعماق هذه الشخصية الفذّة الشهيد خيري علقم تخيّلته قد خطّ بيمينه ليلة استشهاده هذه الوريقات:

"كان أكثر ما يستفزّني أمران: أن يأتي أحد مراسلي الصحافة الإسرائيلية ذوي الوجوه الباردة ليسأل بصفاقة وصلف أبناء من استشهد أبوهم بعملية فدائية: هل أنت فخور بما فعله أبوك؟ ويردفها بقوله: أبوك قتل أناس أبرياء، هل تؤيد ذلك؟ طبعا يريد أن ينقل للمجتمع الإسرائيلي كم هو الفلسطيني إرهابي ومتوحّش وقاتل للأبرياء، أمّا الامر الثاني: وهو عندما يتحرّك للانتقام من يُخرج الانتقام هزيلا ضعيفا لا يشفي الصدور ولا يكون بحجم الجريمة التي ارتكبها العدوّ. قرّرت أن أتجاوز الامرين، ستكون الإجابة على أسئلتهم الوقحة في الفعل نفسه عندما يأتي الردّ سريعا وحاسما على جريمة نكراء قد ارتكبوها، فلا يُبقي هذا الرد مكانا لسؤالهم الخبيث. أمّا الثاني فلا بدّ لي من الاستعداد جيّدا: المادّي والنفسي حتى إذا أتت الفرصة إهتبلتها خير اهتبال. أمّا عن الاستعداد النفسي ففي يومياتهم معنا شحن دائم لتخرج منا كل ما فينا من حميّة وغضب، فمن مكان سكني المطلّ على شارع باب العمود المفضي الى طريق الواد التي تأخذ بيد الضيوف وتذهب بهم الى المسجد الأقصى، لقد رأيت ما تشيب له الولدان من نافذة بيتي الصغيرة، رأيت استفزازهم لفتى، صفعوه حتى احمرّ وجهه وسال الدم من أنفه بغزارة، حاول الهرب فأطلقوا عليه النار وقتلوه، ثم ألقوا سكينا بالقرب منه وقالوا في أخبارهم أنه حاول طعن جندي، لقد بلغ السيل الزبى، رأيت جموع المصلّين وقد خرجوا من صلاتهم بطهارة ووضاءة ونور ليتلقّوهم على باب العمود بخراطيم المياه العادمة، هذه التي تبقى رائحتها ملازمة المكان أياما طويلة، هل يفعل ذلك بالمدينة من يدّعى أنه صاحبها؟ وكم مرّة حرمونا من الصلاة، من على أبواب المسجد نُطرد شرّ طردة، نُقبل بروحانية عالية نحاول أن تناسب روحانية المكان، القلوب لاهجة بذكر محبوبها، تكاد تقفز من صدورنا وهي تسبقنا الى حيث المعشوق، نسير متجاوزون ما في السوق من عروض وبضائع لا همّ لنا الا الصلاة وقبس من نور المسجد، التاريخ كلّه مكتنز في هذا الشارع، تتسربل في أرواحنا المواقف العظيمة مع وقع خطوات من سبقنا أيام عزّ الأقصى والسيادة للأمة، ترى بعيون المقدسيين القدس ببهائها وصورتها الجليلة، وتسير بخطوات فخورة عزيزة لا ريب فإنّك من أهل القدس. حتى إذا صار بينك وبين بلاط المسجد ثلاث خطوات برز لك زبانية الاحتلال. - ارجع ما في صلاة اليوم. - أنا من حقّي الصلاة. - وأنا بقول ممنوع اليوم الصلاة. ويتدافع الناس مع الزبانية وتطلق المدافع قنابلها الغازية، وتحضر للمكان بلمح البصر قوات مضاعفة، يتحوّل المكان الى ساحة حرب وتكون النتيجة تعكير الأجواء وضياع الصلاة وتحويل المكان الى مستنقع مياه عادمة. وصارت حياتنا في القدس على صفيح ساخن، إذا كنت شابّا فالموت يحيط بك من كلّ جانب، إن نجوت من الموت لا تنجو من الاعتقال والتنكيل وجعل حياتك مريرة، وإن كنت مسنّا كحال جدّي عليك أن تلزم بيتك وسريرك، عادة الذهاب للأقصى (كما نشأ وترعرع على ذلك) أصبحت لها حسابات كثيرة، قطعوا عليه طريقه الى مصلّاه ولم يكونوا كقطاع الطرق فحسب وإنما نشروا الموت والقهر مع كلّ خطوة يخطوها وعند كلّ صلاة يريد أن يصلّيها. لم يكتفوا بتهجيره في صباه من بيته وبيّارته أيام نكبة ثمانية وأربعين، كان من أهالي قرية سلمة الساحلية حيث طهّروها عرقيّا وأقاموا مكانها مستوطنة، لجأ إلى القدس متحوّلا من ملّاك إلى أجير عندهم لتوفير قوت يومه ومن يعول. وعندما ضاقت به حياة الاحتلال ذرعا، خرج عن صبره واراد أن يحتجّ فكانت له رصاصة مستوطن بالمرصاد، جدّي الذي أحمل اسمه قتلوه بدم بارد. وظلّت قصّته معهم غصّة تحيك في صدري وتقضّ عليّ مضجعي. وجاءت أيام شكّلنا نحن شباب القدس بيننا وبين هذا الاحتلال الرابض على صدورنا معادلة:"جكر" وهذه تعني أن أي مخالفة لما يريده الاحتلال في القدس هو عمل صالح وعمل وطني بامتياز، فصارت الوقفة في أماكن محددة للشباب، سهرهم على باب العمود، حتى صار الاجتماع على عشاء الاكلة الشعبية المعروفة بالمقلوبة في ساحة المسجد يشكّل "جكر" لجنود الاحتلال. وسرت مع أمثالي في أعمال مقاومة ناعمة كثيرة كان لها الأثر الطيّب، إلا أن يأتي من الاحتلال جريمة بحجم كبير فهذه تحتاج إلى ردّ كبير حسب قوانين نيوتن مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه. لن أقف مكتوف اليدين إن رفعوا الفاتورة أبدا، وكما قلت في البداية سأعطي الإجابة بفعلي سلفا لهذا الصحفي المتنمّر بارد الوجه. " تاقت نفسي الشهادة، أصبح لا شكّ عندي بأن ومضة من حياة كريمة عزيزة عند من يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء خير من حياة مديدة أبد الدهر مغمّسة بالذلّ والمهانة من قبل هذه الجبلّة النكدة، أصبحت اشمّ رائحة الجنة وأجمل ما فيها أنك تعيش حياة عزيزة كريمة لا ذلّ فيها ولا مهانة، لن ترى هناك مرمرة وويلات هذا الاحتلال أبدا، وكانوا كلما زادوا في امتهان كرامتنا كمقدسيين رفعوا من درجة شوقنا لتلك الحياة، حياة الشهادة والتكريم." لم يكتب الشهيد هذا بل هي محاولة لقراءتهم والوصول ولو قريبا من سمائهم العالية، أولئك الشهداء كتبوا بأفعالهم وتركوا لنا الاقوال والاقلام، فماذا كتب بفعله، كان لا بدّ من الردّ على جريمتهم في مخيم جنين حيث قتلوا تسعة في ليلة واحدة. امتشق مسدسه الذي كان قد تدرّب عليه جيدا، اختار مستوطنة من المستوطنات التي بلغ فيها الظلم مداه، ذهب إليهم هناك الى عقر وكرهم، مرّ بكنسيهم وكان يعجّ بالناس، فكّر لحظة مداهمتهم هناك فلم يجب قلبه لأوامر العقل، إذ نحن لسنا مثلهم، ابتعد قليلا وبدأ بإطلاق النار، كلّ رصاصة في مكانها الصحيح، سار واثق الخطى، يطلق النار على كل من يجده صالحا للموت، يريح البشرية منه ومن أفعاله المقيتة. وكانت الحصيلة تسعة مقابل تسعة ودخلت روح جدّي في الحسبان، مساو له في المقدار معاكس له في الاتجاه. مع الاخذ بعين الاعتبار أنهم نالوا ما نالوا منّا بإمكانات دولة بينما شهيدنا كان رجلا بأمة.

تعليقات