التخطي إلى المحتوى الرئيسي

طبائع الاستعمار مع أنظمة الاستحمار..مدونة وليد الهودلي

هناك من الأسود ما تمّ ترويضها فتنازلت عن عرشها في الغابة وتخلّت عن عزتها وعنفوانها وحريتها وفضاءها الرحب، ورضيت أن تعيش في قفص لتأكل وتشرب وتنام وتنصاع لسياط مدرّب السّرك، وتتحرّك الحركة المطلوبة وفق سيمفونية الموسيقى التي يختارها لها ولا تخرج عن الخط المرسوم لها قيد أنملة، تفهم عليه بلغته التي يريدها وتتشكّل الشكل المطلوب بالحركة المطلوبة لتمتّع الناظرين وتسرّ المدرّب الفطين ولتحقق المردود المادّي لشركة السّرك التي تربح أضعاف أضعاف ما تطعم ، وترضى الأسود بهذه الحياة الذليلة وهذا الاستخدام المهين وتتنازل عن نخوتها وشجاعتها وكلّ صفاتها لتكون حملا وديعا ينفّذ ولا يفكّر، ولو أدى الامر به الى نمر قصة زكريا تامر الذي تحوّل الى آكل عشب ونهق نهق الحمير نهاية التمرين.

درسنا في عادات الاستعمار أنه يبدأ بدراسة أحوال وأوضاع البلدان المستهدفة: نقاط القوّة والضعف وعوامل الانتصار والهزيمة، ثم يبدأ بالتركيز على المؤثرات التي تعزز الضعف وقابلية الهزيمة فيها، ثم يهاجمها عسكريا وهي في اشد حالاتها ضعفا ليقلل من حجم خسائره ويحقق استعمارا منخفض التكلفة ثم بعد ذلك يعمل على تهجين الشعوب المستعمرة لتصبح مثل القطيع لا تفكر الا في اشباع بطونها ولا تسعى لتحقيق عزتها وكرامتها وسيادتها وحريتها واستقلالها، تصبح القضية الأساسية لقمة العيش وأوضاعها البهيمية بعيدا عن انسانيتها، لتصل في النهاية بقبول الاستعمار حسب مصطلح مالك بن نبي " قابلية الاستعمار" فيتحوّل الاستعمار الى صديق يألف ويؤلف ويتم التعايش معه بالرضى والقبول، وتحقيق الامتيازات التي تتلخًص في سياسة العصا والجزرة، فالغالبية تنصاع بالجزرة والقلة القليلة الرافضة لمشروع الاستعمار ليس لها الا العصا الغليظة والطرد من بركات الاستعمار والحرمان من شبكة امتيازاته التي يمنحها للقطيع.

ثم إنه بعد ذلك يراهن على حالة من البلادة التي تمتاز بها الحمير(أعزّكم الله) ويصاب هو بحمّى القوة والغطرسة وعربدة الطواغيت فينتقل من حالة قابلية الاستعمار التي وصلت اليها الشعوب المستعمرة الى حالة الاستحمار (التي أجاد وصفها علي شريعتي) فتدفع هذه الحالة الشعوب بغباء منقطع النظير إلى أن تسعى للخدمة طواعية وخنوعا واستسلاما ورضى بالواقع الذي صنعه لها الاستعمار. وهنا تتولّد طبائع الاستعباد التي شرح طرائقها الكواكبي في كتابه الشهير طبائع الاستعباد.

لقد أمعنت فينا عميقا دولة الاحتلال المدعومة بالغطرسة الامريكية، وقد شجّعها في ذلك بلادة الحسّ فيما وصلت اليه انظمتنا الفاشلة، حيث أدمنت وقبلت لنفسها أن تتمتّع بالامرين معا قابلية الاستعمار وقابليتها للاستحمار، وهو على درجات حيث بلغت في ذلك درجة كبيرة ومستوى غير مسبوق بتنا نراه وقد اتسع الخرق على الراتق ولم تعد تستحي مما تفعل ووصلت اليها حالتها حالة النمر نهاية الترويض التي وصلت اليه قصة الكاتب السوري زكريا تامر.

وجديد اتفاقيات السلام مع دول الاحتلال هو الكشف عن الدرجة التي وصل اليها مدرّب السيرك في الترويض وتسخير العربان، وصلوا الى الحالة الأمثل لمدرّب لم يكن يطمح في يوم من الأيام أن تستجيب لأمره فتأخذ الشكل والدور المطلوب تماما دون أن تزيغ أو تنحرف قيد أنملة عما يريد، فما عليه إلا أن يعزف فتتحرّك الحركة المطلوبة بانسيابية تامّة على أفضل ما يمكن لحيوان سيرك قد أفقدوه كلّ خصائصه الأولى وبات كما يحلو لهم.

ولنعلم تماما أن هذه الدرجة من الاستحواذ على الحكام ومقدرات البلدان كما هو مثار مزيد من الغطرسة والتوغّل والعدوان، فإنه أيضا يعدّ في حركة التاريخ مثار للثورة والتغيير وانقلاب السّحر على الساحر. والامثلة على ذلك كثيرة في التاريخ المعاصر والقديم.  



   

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علو ورفع الهمةج2

خطبة الجمعة علو الهمة 2

ليل غزة الفسفوري ..مدونة وليد الهودلي

  حين يكتب الهودلي لغزة تحت نيران الغزاة، فإنه يتطهر بالرصاص   المصبوب  كانت روحه هناك تتمثل أصوات القصف على قلوب الأطفال  كان يريد أن يرفع كفيه إلى سماء غزة ليكف شر المغيرين، طائراتهم المعبأة بالحقد والبترول العربي كانت تشق سماء المعتقل في بئر السبع، قبل توغلها وتغوّلها على ليل غزة، القلم يكتب والشفاه تتمتم بالدعاء  والله - سبحانه - يستجيب لقلب لا يكفّ عن الوجيب حدث ذلك عام 2008  .    اضغط هنا

الشيخ أحمد ياسين :شيخ الدعوة وشيخ السياسة ..

الشهيدالشيخ احمد ياسين            هناك من يتقن الدعوة والتنظير الى الفكرة التي يؤمن بها ولكنه في معترك الواقع والولوج الى ميدان فن الممكن والسياسة وفق تقديراتها ومآلاتها وتقدير مصالح الناس وامكانات الوصول للاهداف واحالة الشعار الى حلول ونجاحات يجد نفسه في عالم أخر لا يتقن فنونه ، اطلاق الشعار لا يحتاج الا الى مهارة لغوية سجعية وصوت رنان ، بينما احالته الى أن يصبح واقعا ملموسا فيحتاج الى قيادة رشيدة حكيمة ذات خبرة غزيرة وتأهيل عال ، تجيد رسم الخطط والبرامج وقادرة على تسخير الامكانات وتوظيف القدرات والمثابرة والجلد ... الخ . كيف بنا اذا كانت المبادىء المطروحة والشعارات كبيرة لأنها سماوية تريد إقامة رسالة السماء في الارض في ظروف وملابسات قاسية وبالغة التعقيد ؟؟ واذا نظرنا الى معادلة الدين والسياسة فهناك من يملك ناصية العلم والفقه الديني العميق ، ولكن هذا غير كاف إذ لا بد من أن يكون رصيده واسعا في فهم الواقع وفك رموز تعقيداته والقدرة على التوصيف والتحليل والوصول الى التشخيص الموضوعي الصحيح   ، ثم بعد ذلك تأتي القدرة على تفعيل النص الديني في الواقع بطريق...